فصل: الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)

‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل، عبدالله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات‏.‏ ‏}‏قل إن الله يضل من يشاء‏}‏ عز وجل ‏}‏يضل من يشاء‏}‏ أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها‏.‏ ‏}‏ويهدي إليه من أناب‏}‏ أي من رجع‏.‏ والهاء في ‏}‏إليه‏}‏ للحق، أو للإسلام، أو لله عز وجل؛ على تقدير‏:‏ ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه‏.‏ وقيل‏:‏ هي للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ‏}‏الذين‏}‏ في موضع نصب، لأنه مفعول؛ أي يهدي الله الذين أمنوا‏.‏ وقيل بدل من قوله‏{‏من أناب‏}‏ فهو في محل نصب أيضا‏.‏ ‏}‏وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏}‏ أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن؛ قال‏:‏ أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم؛ قال قتادة‏:‏ وقال مجاهد وقتادة وغيرهما‏:‏ بالقرآن‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ بأمره‏.‏ مقاتل‏:‏ بوعده‏.‏ ابن عباس‏:‏ بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه؛ كما تَْوجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه‏.‏ وقيل‏{‏يذكر الله‏}‏ أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏ أي قلوب المؤمنين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا في الحلف؛ فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه‏.‏ وقيل‏{‏بذكر الله‏}‏ أي بطاعة الله‏.‏ وقيل‏:‏ بثواب الله‏.‏ وقيل‏:‏ بوعد الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم‏}‏ ابتداء وخبره‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لهم طوبى، فـ‏}‏طوبى‏}‏ رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير‏:‏ جعل لهم طوبى، ويعطف عليه ‏}‏وحسن مآب‏}‏ على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب‏.‏ وذكر عبدالرزاق‏:‏ أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن عبدالسلمي قال‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال‏:‏ فيها فاكهة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم شجرة تدعى طوبى‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أي شجر أرضنا تشبه‏؟‏ قال ‏(‏لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعي الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ فما عظم أصلها‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما‏)‏‏.‏ وذكر الحديث، وقد كتبناه بكمال في أبواب الجنة من كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏، والحمد لله‏.‏ وذكر ابن المبارك قال‏:‏ أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبدالله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال‏:‏ في الجنة شجرة يقال لها طوبى؛ يقول الله تعالى لها‏:‏ تفتقي لعبدي عما شاء؛ فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء، وعن النجائب والثياب‏.‏ وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال‏{‏طوبى‏}‏ شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، ولا ثمرة إلا هي منها؛ وقد قيل‏:‏ إن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏طوبى لهم‏}‏ فرح لهم وقرة عين؛ وعنه أيضا أن ‏}‏طوبى‏}‏ اسم الجنة بالحبشية؛ وقال سعيد بن جبير‏.‏ الربيع بن أنس‏:‏ هو البستان بلغة الهند؛ قال القشيري‏:‏ إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين‏.‏ وقال قتادة‏{‏طوبى لهم‏}‏ حسنى لهم‏.‏ عكرمة‏:‏ نعمى لهم‏.‏ إبراهيم النخعي‏:‏ خير لهم، وعنه أيضا كرامة من الله لهم‏.‏ الضحاك‏:‏ غبطة لهم‏.‏ النحاس‏:‏ وهذه الأقوال متقاربة؛ لأن طوبى فعلى من الطيب؛ أي العيش الطيب لهم؛ وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ طوبى فعلى من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم؛ والأصل طيبي، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا‏:‏ موسر وموقن‏.‏

قلت‏:‏ والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي؛ ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه؛ وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره؛ وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة‏)‏ ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏طوبى‏}‏ شجرة في الجنة أصلها في دار علي، وفي دار كل مؤمن منها غصن‏.‏ وقال أبو جعفر محمد بن علي‏:‏‏(‏سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏{‏طوبى لهم وحسن مآب‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة‏)‏ ثم سئل عنها مرة أخرى فقال‏:‏ ‏(‏شجرة أصلها في دار علي وفروعها في الجنة‏)‏‏.‏ فقيل له‏:‏ يا رسول الله‏!‏ سئلت عنها فقلت‏:‏ ‏(‏أصلها في داري وفروعها في الجنة‏)‏ ثم سئلت عنها فقلت‏:‏ ‏(‏أصلها في دار علي وفروعها في الجنة‏)‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد‏)‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها‏)‏ ‏}‏وحسن مآب‏}‏ آب إذا رجح‏.‏ وقيل‏:‏ تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم‏}‏ أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك؛ قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله‏.‏ ‏}‏لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏}‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ قال مقاتل وابن جريج‏:‏ نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ فقال سهيل بن عمرو والمشركون‏:‏ ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ اكتب باسمك اللهم، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله‏)‏ فقال مشركو قريش‏:‏ لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب‏:‏ هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعنا نقاتلهم؛ فقال‏:‏ ‏(‏لا ولكن اكتب ما يريدون‏)‏ فنزلت‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسجدوا للرحمن‏)‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏}‏ قالوا وما الرحمن‏}‏ فنزلت‏.‏ ‏}‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ الذي أنكرتم‏.‏ ‏}‏هو ربي لا إله إلا هو‏}‏ ولا معبود سواه؛ هو واحد بذاته؛ وإن اختلفت أسماء صفاته‏.‏ ‏}‏عليه توكلت‏}‏ واعتمدت ووثقت‏.‏ ‏}‏وإليه متاب‏}‏ أي مرجعي غدا، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت، رضا بقضائه، وتسليما لأمره‏.‏ وقيل‏:‏ سمع أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول‏:‏ ‏(‏يا الله يا رحمن‏)‏ فقال‏:‏ كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين؛ فنزلت هذه الآية، ونزل‏.‏ ‏}‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏ هذا متصل بقوله‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏يونس‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم؛ فقال له عبدالله‏:‏ إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح؛ فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا؛ فقد كان سليمان سحرت له الريح كما زعمت؛ فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصيا جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله؛ أحق ما تقول أنت أم باطل‏؟‏ فإن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأهون على الله منه؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏ الآية؛ قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك؛ والجواب محذوف تقديره‏:‏ لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازا، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏

فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا

يعني لهان علي؛ هذا معنى قول قتادة؛ قال‏:‏ لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا‏.‏ الفراء‏:‏ يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن‏.‏ الزجاج‏{‏ولو أن قرآنا‏}‏ إلى قوله‏{‏الموتى‏}‏ لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة‏}‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏ إلى قوله‏{‏ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ‏}‏بل لله الأمر جميعا‏}‏ أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏أفلم ييئس الذين آمنوا‏}‏ قال الفراء قال الكلبي‏{‏ييأس‏}‏ بمعنى يعلم، لغة النخع؛ وحكاه القشيري عن ابن عباس؛ أي أفلم يعلموا؛ وقاله الجوهري في الصحاح‏.‏ وقيل‏:‏ هو لغة هوازن؛ أي أفلم يعلم؛ عن ابن عباس ومجاهد والحسن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري‏:‏

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ ويروى يأسرونني من الأسر‏.‏ وقال رباح بن عدي‏:‏

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

في كتاب الرد ‏}‏أني أنا ابنه‏}‏ وكذا ذكره الغزنوي‏:‏ ألم يعلم؛ والمعنى على هذا‏:‏ أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ هو من اليأس المعروف؛ أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار‏.‏ وقرأ علي وابن عباس‏{‏أفلم يتبين الذين آمنوا‏}‏ من البيان‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقيل لابن عباس المكتوب ‏}‏أفلم ييئس‏}‏ قال‏:‏ أظن الكاتب كتبها وهو ناعس؛ أي زاد بعض الحروف حتى صار ‏}‏ييئس‏}‏‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ روي عن عكرمة عن ابن أبي‏:‏ نجيح أنه قرأ - ‏}‏أفلم يتبين الذين آمنوا‏}‏ وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة؛ وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ ثم إن معناه‏:‏ أفلم يتبين؛ فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا؛ وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان‏.‏ ‏}‏أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ مخففة من القيلة، أي أنه لو يشاء الله ‏}‏لهدى الناس جميعا‏}‏ وهو يرد على القدرية وغيرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏ أي داهية تفجؤهم بكفرهم؛ وعتوهم؛ ويقال‏:‏ قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع؛ والأصل في القرع الضرب؛ قال‏:‏

أفني تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق

أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء؛ كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين‏.‏ وقال عكرمة عن ابن عباس‏:‏ القارعة النكبة‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وعكرمة‏:‏ القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ‏}‏أو تحل‏}‏ أي القارعة‏.‏ ‏}‏قريبا من دارهم‏}‏ قاله قتادة والحسن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أو تحل أنت قريبا من دارهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت الآية بالمدينة؛ أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة‏.‏ ‏}‏حتى يأتي وعد الله‏}‏ في فتح مكة؛ قاله مجاهد وقتادة وقيل‏:‏ نزلت بمكة؛ أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم؛ وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وعد الله يوم القيامة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم‏}‏ تقدم معنى الاستهزاء في ‏}‏البقرة‏}‏ ومعنى الإملاء في ‏}‏آل عمران‏}‏ أي سخر بهم، وأزري عليهم؛ فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم؛ فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة‏.‏ ‏}‏فكيف كان عقاب‏}‏ أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق؛ كما يقال‏:‏ قام فلان بشغل كذا؛ فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها؛ فالمعنى‏:‏ أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف؛ والمعنى‏:‏ أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل‏.‏ وقيل‏{‏أفمن هو قائم‏}‏ أي عالم؛ قاله الأعمش‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلولا رجال من قريش أعزة سرقتم ثياب البيت والله قائم

أي عالم؛ فالله عالم بكسب كل نفس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك‏.‏ ‏}‏وجعلوا‏}‏ حال؛ أي أوقد جعلوا، أو عطف على ‏}‏استهزئ‏}‏ أي استهزؤوا وجعلوا؛ أي سموا ‏}‏لله شركاء‏}‏ يعني أصناما جعلوها آلهة‏.‏ ‏}‏قل سموهم‏}‏ أي قل لهم يا محمد‏{‏سموهم‏}‏ أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد؛ أي إنما يسمون‏:‏ اللات والعزى ومناة وهبل‏.‏ ‏}‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ ‏}‏أم‏}‏ استفهام توبيخ، أي أتنبئونه؛ وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى؛ لأن قوله‏{‏سموهم‏}‏ معناه‏:‏ ألهم أسماء الخالقين‏.‏ ‏}‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه‏.‏ ‏}‏أم بظاهر من القول‏}‏ يعلمه‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا‏:‏ بظاهر يعلمه فقل لهم‏:‏ سموهم؛ فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم‏:‏ إن الله لا يعلم لنفسه شريكا‏.‏ وقيل‏{‏أم تنبئونه‏}‏ عطف على قوله‏{‏أفمن هو قائم‏}‏ أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم؛ أي أنتم تدعون لله شريكا، والله لا يعلم لنفسه شريكا؛ أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه‏!‏ وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض‏.‏ ومعنى‏.‏ ‏}‏أم بظاهر من القول‏}‏‏:‏ الذي أنزل الله على أنبيائه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه بباطل من القول؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي باطل‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بكذب من القول‏.‏ ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم؛ ويكون معنى الكلام‏:‏ أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين‏.‏ ‏}‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ أي دع هذا‏!‏ بل زين للذين كفروا مكرهم قيل‏:‏ استدراك‏.‏ على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم‏.‏ وقرأ ابن عباس ومجاهد - ‏}‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى، وقيل‏:‏ الشيطان‏.‏ ويجوز أن يسمى الكفر مكرا؛ لأن مكرهم بالرسول كان كفرا‏.‏ ‏}‏وصدوا عن السبيل‏}‏ أي صدهم الله؛ وهي قراءة حمزة والكسائي‏.‏ الباقون بالفتح؛ أي صدوا غيرهم؛ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏الأنفال‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏{‏هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقراءة الضم أيضا حسنة في ‏}‏زين‏}‏ و‏}‏صدوا‏}‏ لأنه معلوم أن الله فاعل، ذلك في مذهب أهل السنة؛ ففيه إثبات القدر، وهو اختيار أبي عبيد‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - ‏}‏وصِدوا‏}‏ بكسر الصاد؛ وكذلك‏.‏ ‏}‏هذه بضاعتنا ردت إلينا‏}‏يوسف‏:‏ 65‏]‏ بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله؛ وأصلها صددوا ورددت، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر‏.‏ ‏}‏ومن يضلل الله‏}‏ بخذلانه‏.‏ ‏}‏فما له من هاد‏}‏ أي موفق؛ وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين ومن تابعهم؛ لقوله‏{‏، ومن يضلل الله‏}‏ فكذلك قوله‏{‏وصدوا‏}‏‏.‏ ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء؛ وكذلك ‏}‏وال‏}‏ و‏}‏واق‏}‏؛ لأنك تقول في الرجل‏:‏ هذا قاض ووال وهاد، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين‏.‏ وقرئ ‏}‏فما له من هادي‏}‏ و‏}‏والي‏}‏ و‏}‏واقي‏}‏ بالياء؛ وهو على لغة من يقول‏:‏ هذا داعي وواقي بالياء؛ لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين، وقد أمنا هذا في الوقف؛ فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي‏.‏ وقال الخليل في نداء قاض‏:‏ يا قاضي بإثبات الياء؛ إذ لا تنوين مع النداء، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق‏}‏

قوله تعالى‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏ أي للمشركين الصادين‏:‏ بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب‏.‏ ‏}‏ولعذاب الآخرة أشق‏}‏ أي أشد؛ من قولك‏:‏ شق علي كذا يشق‏.‏ ‏}‏وما لهم من الله من واق‏}‏ أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع‏.‏ و‏}‏من‏}‏ زائدة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار‏}‏

قوله تعالى‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون‏}‏ اختلف النحاة في رفع ‏}‏مثل‏}‏ فقال سيبويه‏:‏ ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير‏:‏ وفيما يتلى عليكم مثل الجنة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ ارتفع الابتداء وخبره ‏}‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك‏:‏ قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى‏{‏ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وقال‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏النحل‏:‏ 60‏]‏ أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال‏:‏ لم يسمع مثل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم‏:‏ مررت برجل مثلك؛ كما تقول‏:‏ مررت برجل شبهك؛ قال‏:‏ ويفسد أيضا من جهة المعنى؛ لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام‏:‏ صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج‏:‏ مثل الله عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى‏:‏ مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو علي فقال‏:‏ لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت‏:‏ صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث؛ والجنة غير حدث؛ فلا يكون الأول الثاني‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى‏:‏ الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل؛ كقوله‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏:‏ أي ليس هو كشيء‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة ‏}‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ وقيل معناه‏:‏ شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود؛ قاله مقاتل‏.‏ ‏}‏أكلها دائم وظلها‏}‏ لا ينقطع؛ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى‏)‏ وقد بيناه في ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ ‏}‏وظلها‏}‏ أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول؛ وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني‏.‏ ‏}‏تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار‏}‏ أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك‏}‏ أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد‏.‏ وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم‏.‏ وقال أكثر العلماء‏:‏ كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ فقالت قريش‏:‏ ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمن‏!‏ والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ فنزلت‏{‏وهم بذكر الرحمن هم كافرون‏}‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ ‏}‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل الله تعالى‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك‏}‏‏.‏ ‏}‏ومن الأحزاب‏}‏ يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس‏.‏ وقيل‏:‏ هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض‏.‏ ‏}‏قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به‏}‏ قراءة الجماعة بالنصب عطفا على ‏}‏أعبد‏}‏‏.‏ وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال‏:‏ المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود‏.‏ ‏}‏إليه أدعو‏}‏ أي إلى عبادته أدعو الناس‏.‏ ‏}‏وإليه مآب‏}‏ أي أرجع في أموري كلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أنزلناه حكما عربيا‏}‏ أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا‏.‏ وقيل نظم الآية‏:‏ وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم‏.‏ ‏}‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة‏.‏ ‏}‏بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق‏}‏ أي ناصر ينصرك‏.‏ ‏}‏ولا واق‏}‏ يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب‏}‏

قيل‏:‏ إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا‏:‏ ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية‏}‏ أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي‏.‏

هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ وقال‏:‏ ‏(‏من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني‏)‏‏.‏ ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال‏:‏ ‏(‏من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه‏)‏ خرجه الموطأ وغيره‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أنس قال‏:‏ ‏(‏جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا‏:‏ وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم‏!‏ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏.‏ فقال أحدهم‏:‏ أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر‏:‏ إني أصوم الدهر فلا أفطر‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أنا أعتزل النساء فلا أتزوج؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال‏:‏ ‏(‏أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏ خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبين‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏‏(‏أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك‏.‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول‏:‏ إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له‏:‏ وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول‏:‏ ‏(‏عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة‏)‏ يعني بقول‏:‏ ‏(‏أنتق أرحاما‏)‏ أقبل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا‏.‏ وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها‏؟‏ قال ‏}‏لا‏}‏ ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال‏:‏ ‏(‏تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم‏)‏‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق وحسبك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏ عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه‏.‏ ‏}‏لكل أجل كتاب‏}‏ أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قال الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، المعنى‏:‏ لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره‏.‏ ‏}‏لكل نبأ مستقر‏}‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏؛ بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة‏.‏ وذكر الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال‏:‏ لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال‏:‏ يا موسى ما هذا‏؟‏ وهو أعلم به، قال‏:‏ شيء من حلي الرجال، قال‏:‏ فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فاكتب عليه ‏}‏لكل أجل كتاب‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به‏.‏ ‏}‏ويثبت‏}‏ ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال‏:‏ محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره‏.‏ ‏}‏ويثبت‏}‏ أي ويثبته؛ كقوله‏{‏والذاكرين الله كثيرا والذاكرات‏}‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏ أي والذاكرات الله‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ‏}‏ويثبت‏}‏ بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول‏{‏يثبت الله الذين آمنوا‏}‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه‏:‏ هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت‏.‏ ‏}‏وعنده أم الكتاب‏}‏ الذي لا يتغير منه شيء‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكم‏.‏

قلت‏:‏ مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ‏:‏ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي‏.‏ وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك‏:‏ تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب‏.‏ وكان أبو وائل يكثر أن يدعو‏:‏ اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‏.‏ وقال كعب لعمر بن الخطاب‏:‏ لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ ‏}‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏‏.‏ وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها‏:‏ اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‏.‏ وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه‏)‏‏.‏ ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أحب‏)‏ فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت‏.‏ والآخر‏:‏ يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏‏.‏ وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه‏)‏ كيف يزاد في العمر والأجل‏؟‏ ‏!‏ فقال‏:‏ قال الله عز وجل‏{‏هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده‏}‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني‏:‏ يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ؛ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ فإذا تحتمل الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى‏{‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال‏:‏ يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك‏:‏ أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب‏.‏ وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير‏:‏ يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس‏:‏ وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ‏}‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ يقول‏:‏ يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، ‏}‏ويثبت‏}‏ ما يشاء فلا يبدله، ‏}‏وعنده أم الكتاب‏}‏ يقول‏:‏ جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ‏.‏ وقال سعيد بن جبير أيضا‏:‏ يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى‏{‏إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا‏}‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏ الآية‏.‏ وقال الحسن‏{‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ من جاء أجله، ‏}‏ويثبت‏}‏ من لم يأت أجله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يمحو الآباء، ويثبت الأبناء‏.‏ وعنه أيضا‏.‏ ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسي‏.‏ وقال السدي‏{‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ يعني‏:‏ القمر، ‏}‏ويثبت‏}‏ يعني‏:‏ الشمس؛ بيانه قوله‏{‏فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ هذا في الأرواح حالة النوم؛ يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه؛ بيانه قوله‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله‏{‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون‏}‏يس‏:‏ 31‏]‏ ويثبت ما يشاء منها، كقوله‏{‏ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين‏}‏المؤمنون‏:‏ 31‏]‏ فيمحو قرنا، ويثبت قرنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله؛ فهو الذي يمحو، والذي يثبت‏:‏ الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات؛ ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ يمحو الله ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة‏.‏ وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب‏:‏ هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء‏.‏ وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء‏)‏‏.‏ والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله؛ وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت؛ ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم‏.‏ وقال الغزنوي‏:‏ وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة؛ فيحتمل التبديل؛ لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال؛ وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل‏.‏ ‏}‏وعنده أم الكتاب‏}‏ أصل ما كتب من الآجال وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه يجري فيه التبديل‏.‏ وقيل‏:‏ إنما يجري في الجرائد الأخر‏.‏ وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال‏:‏ علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون؛ فقال لعلمه‏:‏ كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر؛ دليله قوله تعالى‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر‏}‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ وهذا يرجع معناه إلى الأول؛ وهو معنى قول كعب‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ زائدة، والتقدير‏:‏ وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏الرعد‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ أي إن أريناك بعض ما وعدناهم ‏}‏أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ‏}‏ فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛ ‏}‏وعلينا الحساب‏}‏ أي الجزاء والعقوبة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولم يروا‏}‏ يعني، أهل مكة، ‏}‏أنا نأتي الأرض‏}‏ أي نقصدها‏.‏ ‏}‏ننقصها من أطرافها‏}‏ اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد‏{‏ننقصها من أطرافها‏}‏ موت علمائها وصلحائها قال القشيري‏:‏ وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي‏:‏ الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية‏:‏ أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى‏.‏ وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن‏:‏ هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد‏:‏ نقصانها خرابها وموت أهلها‏.‏ وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ قال‏:‏ ذهاب فقهائها وخيار أهلها‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول‏.‏

قلت‏:‏ وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، ‏}‏ننقصها من أطرفها‏}‏ قال‏:‏ موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة والشعبي‏:‏ هو النقصان وقبض الأنفس‏.‏ قال أحدهما‏:‏ ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ لضاق عليك حش تتبرز فيه‏.‏ قيل‏:‏ المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى‏:‏ أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم‏؟‏‏!‏ أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج‏.‏ وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها‏.‏ وقيل‏:‏ نقصها بجور ولاتها‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يحكم لا معقب لحكمه‏}‏ أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير‏.‏ ‏}‏وهو سريع الحساب‏}‏ أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحتاج‏.‏ في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم‏.‏ ‏}‏فلله المكر جميعا‏}‏ أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ فلله خير المكر؛ أي يجازيهم به‏.‏ ‏}‏يعلم ما تكسب كل نفس‏}‏ من خير وشر، فيجازي عليه‏.‏ ‏}‏وسيعلم الكفار‏}‏ كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو‏.‏ الباقون‏{‏الكفار‏}‏ على الجمع‏.‏ وقيل‏:‏ عني به أبو جهل‏.‏ ‏}‏لمن عقبى الدار‏}‏ أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلا‏}‏ قال قتادة‏:‏ هم مشركو العرب؛ أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك‏.‏ ‏}‏قل كفى بالله‏}‏ أي قل لهم يا محمد‏{‏كفى بالله شهيدا بيني وبينكم‏}‏ بصدقي وكذبكم‏.‏ ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير‏.‏ وقيل‏:‏ كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير‏.‏ وروى الترمذي عن ابن أخي عبدالله بن سلام قال‏:‏ لما أريد قتل عثمان جاء عبدالله بن سلام فقال له عثمان‏:‏ ما جاء بك‏؟‏ قال‏:‏ جئت في نصرتك؛ قال‏:‏ أخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ قال فخرج عبدالله بن سلام إلى الناس فقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، ونزلت في آيات من كتاب الله؛ فنزلت في‏.‏ ‏}‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ ونزلت في‏.‏ ‏}‏قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏ الحديث‏.‏ وقد كتبناه بكماله في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ وقال فيه أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ وكان اسمه الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله‏.‏ وقال أبو بشر‏:‏ قلت لسعيد بن جبير ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ هو عبدالله بن سلام‏.‏

قلت‏:‏ وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة‏؟‏‏!‏ ذكره الثعلبي‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس‏.‏ وقال الحسن ومجاهد والضحاك‏:‏ هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ وينكرون على من يقول‏:‏ هو عبدالله بن سلام وسلمان؛ لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - ‏}‏ومِن عنده‏}‏ بكسر الميم والعين والدال ‏}‏علم الكتاب‏}‏ بضم العين ورفع الكتاب‏.‏ وقال عبدالله بن عطاء‏:‏ قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام فقال‏:‏ إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد ابن الحنفية‏.‏ وقيل‏:‏ جميع المؤمنين، والله أعلم‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين‏:‏ إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه‏.‏ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏أنا مدينة العلم وعلي بابها‏)‏ وهو حديث باطل؛ النبي صلى الله عليه وسلم علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم‏.‏ وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بصدقه‏.‏

قلت‏:‏ فالكتاب على هذا هو القرآن‏.‏ وأما من قال هو عبدالله بن سلام فعوَّل، على حديث الترمذي؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبدالله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا‏}‏ يعني قريشا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقول من قال هو عبدالله بن سلام وغيره يحتمل أيضا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا؛ والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏